عندما يبلغ الشعر ذروة إيقاعه وموسيقاه ، ويلمع وميض تجلياته الإبداعية في أفق الهم العربي الإسلامي، فإنّك أخي القارئ مع شاعر فذّ تنسكب روحه الشاعرة في شعره انسكابا آسرا على نحو غير مألوف كأنّها فصائل الجُمان وعناقيد الورد والريحان، ألوانها زاهرة، وعطورها آسرة، وأوراقها تتندى بهذا العبق الأصيل،لتتوشّح رداء الشاعر صالح هندل الجميل، الذي يمثّل شعره في معظمه: الكلاسيكية الشعرية في عنايتها بجودة الصّياغة ورصانة، التعبير ووحدة القافية مع مزاوجة عجيبة بين المستويات الإيقاعية والروح التجديدية، فقد أفلتت منه بعض الومضات الرومانسية التي كانت صدى لهموم الغربة والاغتراب والحنين والإحساس بضياع الإنسان بل الوطن والتراب، نتيجة لمشاعر الإحباط واليأس التي كانت تواكب فشل كل أمل من أجل تغيير الوضع الرّاهن، بل اتسعت مضامين شعره لألوان من النقد الاجتماعي كتنفيس لهموم ثقيلة ألقت بكلكلها لا تريم.
إنّك على موعد أخي القارئ في هذا الحوار مع شاعر موهوب خُلق للشعر ولم يخلق لغيره، ودانت له مملكة الكلمة والبيان، وتوجته ملكا للقريض بلا منازع، فصال وجال وحلّق في فضاءات لم يحلق فيها باعتقادي شاعر سواه. يتسلل إلى أغوار اللغة الشعرية فيستلّ مكنوناتها فإذا بالإلهام يتكشّف والخواطر المكبوتة تصدح وتتشفّف، والأسماع تنصت و تتشنف، والصورة الباهتة عند غيره تصبح ناصعة جليّة تتهفهف.
س1- من يكون ضيفنا؟
- أنا المسمى صالح هندل ولدت في الثامن مارس عام 1961 بمدينة سطيف في أسرة فقيرة محافظة ونشأت فيها. وفي سنة 1966 التحقت بالمدرسة الابتدائية في حي طنجة وأكملت هذه المرحلة بمدينة رأس الوادي التي انتقلت إليها أسرتي واستقرت فيها، ثم تابعت دراستي بمتوسطة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي ومنها إلى ثانوية السعيد زروقي بمدينة برج بوعريريج. وفي سنة 1980 التحقت بجامعة باتنة وانتسبت إلى معهد الآداب واللغة العربية، ولما نلت شهادة الليسانس اشتغلت بالتعليم الثانوي بمدينة رأس الوادي ولا أزال إلى يومنا هذا أستاذا لمادة الأدب العربي بثانوية سالم صريفق.
س2- كيف كانت بداية قرانك بالقريض؟
-أحببت الشعر مُذ كنت تلميذا بالمتوسطة وكانت لي محاولات وطنية حاكيت فيها الأناشيد الحماسية الثورية، وكنت مُولعا بالمطالعة وحفظ الأشعار، وما إن انتقلت إلى الثانوية وتعرّفت على البحور الشعرية وفنّ البلاغة حتى جادت قريحتي وتفتّحت موهبتي بأجمل القصائد العاطفية. وفي جامعة باتنة اكتملت هذه الموهبة ونضجت فنشرت الكثير من القصائد في الجرائد الوطنية مثل: النصر، والنهار، والخبر والنور،ورسالة الأطلس، وغيرها ...كما شاركت في عدة مهرجانات وطنية، وكنت محظوظا حينما أدرج اسمي ضمن مجموعة الشعراء المعاصرين في معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين .
س3- أين غبت كل هذه المدة؟ وهل تخليت عن الشعر؟
- لظروف نفسية واجتماعية اعتزلت الشعر ولم أكتب منذ سنة1996 ولا قصيدة واحدة فضاعت معظم قصائدي واستطعت أن أنقذ منها ثلاثا و عشرين قصيدة قيّدتُها في ديوان واحد تحت عنوان (حروف تتحدى) لا يزال مخطوطا إلى اليوم.
س4- هل اخترت الشعر أم اختارك؟
- الشعر وحي لا ينزل إلاّ على من تأهّبتْ نفسه لاحتضانه، وكانت له الاستعدادات الروحية والشعورية والفكرية ما يؤهله للنبوغ والتفوق و الإبداع. ولا يكفي ذلك ما لم يتسلّح الشاعر بالقدرة على البيان والدُّربة على التعبير الشعري المرهف. ولا مجال ها هنا لأن أتلاعب بالكلمات وأدعي ما يردده البعض مثل: اختارني الشعر أو كتبتني القصيدة أو صاغتني الحروف أو ماشابه ذلك وإنما أقول: أحببت الشعر وتعلّقت به في صغري فحفظت منه الكثير ورحت أقلّد بعض الشعراء ثم شيئا فشيئا تحررت كليا و أصبحت أكتب قصائد من نسيجي الخاص. ولما اجتهدت أكثر في القراءة والتذوق تفجرت ملكاتي الفنية و تألّقت، وتوهّجت قصائدي بالإبداع، ثم انصرفت إلى مشاغل الحياة وأسرتني مشاكلها فخبا وحيُ الشعر عندي ولم أعد أحسّ بتلك الرغبة الجامحة لا في القراءة ولا في قول الشعر .
س5- بم تأثّرت قديما وحديثا؟
- لا أعتقد أني أستطيع أن أحدّد شاعرا ثم أزعم أني تأثّرت به أو بمنهجه، لأني وبكل بساطة قرأت كثيرا من الشعر قديمه وحديثه، وتراكمت في رصيدي الثقافي تجارب الشعراء على اختلاف ألوانها و طعومها ثم امتزجتْ جداولهُم في نهرٍ واحد فلم أعد قادرا على التمييز بين الألوان و الطعوم التي توحّدت في ملكتي الشعرية، فقد تلمس روح الأعشى في قصيدة وقد تفهم فلسفة المعري في أخرى، وقد تدرك عمق السياب في ثالثة، كما قد تحسّ برومانسية الشابي في قصيدة رابعة وقد تشعر بكل هذه الطعوم أو ببعضها في قصيدة واحدة وحسبي أن أترك الإجابة عن هذا السّؤال للنّقاد المتمرّسين إذا حظيت قصائدي بنقدهم.
س6- لمن يقرأ صالح هندل؟
- كنت سابقا أقرأ كثيرا للشابي وابن الرومي والمعرّي و أدونيس ودرويش وأطالع عيون الشعر القديم والحديث، لكنّي اليوم بكل صراحة لم أعد أقرأ إلا لِماما وفي أوقات محدودة جدا إذ لم يعد باستطاعة الإنسان البسيط الذي تشعّبتْ همومه وتعقّدت أموره وتزاحمت عليه المسؤوليات أن يجد رغبة في المطالعة بله اقتناء الكتب الباهظة الثمن، واصطياد الوقت المناسب للقراءة والمطالعة وما زاد الطين بلّة ما يمارس في بلادنا من سياسات التهميش و الإقصاء وثقافة النسيان في حق البراعم الشابة المتطلعة إلى النجاح والطامحة إلى الأخذ بيدها إلى عالم الإبداع و النبوغ.
س7- في عصر الفضائيات والانترنت هل تراهن على القراءة؟ وهل بقي للشعر من دور؟
- صحيح أن عصر الفضائيات والانترنت استهلك جلّ أوقات الإنسان، ولم يترك له خيارا للاهتمام بعالم الكتب والقراءة لكنْ ذلك لا ينفي ما يجنيه الإنسان من فوائد جمّة من اهتمامه بعالم الفضائيات والانترنت ولا ينكر هذه الفوائد إلا جاحد متخلّف، لأنّها قدّمت للإنسان تسهيلات لم يكن يحلم بها، وأسهمت بشكل كبير في توفير جهوده و أوقاته بما لم يكن يقدر على تحقيقه دونها، فهي أدوات تثقيفية لا تضاهى لمن أراد ذلك، سواء من حيث قدرتُها على توفير الوقت وسرعة الوصول إلى المعلومات، أو من حيث دقّةُ وجودة ما تعرضه من علوم و معارف وثقافة .غير أن متعة الكتاب ونشوة قراءته وتصفحه تبقى فريدة لا يمكن للإنسان الواعي أن ينكرها أو يُعرِض عنها في حياته اليومية. أمّا دور الشعر فهو في تعاظم مستمر إذ أن هذه الوسائل التكنولوجية العصرية لم تلغه بل دعمته وقوّت شوكته وعزّزت تأثيره. ألا ترى معي أن الانترنت مثلا قد فتحت الكثير من مواقعها للشعر والشعراء على غرار( أصوات الشمال) ومكّنتنا من الاطلاع على كل مستجدات الحياة الشعرية في العالم بأسره فأسهمت إسهاما عظيما في تلاقح الثقافات وزيادة فرص التأثر والتأثير، ناهيك عن حفظها لتراثنا الشعري الضخم الذي عجّت به ملايين بل ملايير الكتب القديمة التي صارت عرضة للغبار و الإهمال والنسيان.
س8- ماذا تقولون في قضية الحداثة الشعرية ؟وهل تراثنا صار عقدة كما يقول البعض؟
- الحداثة في الشعر قضيّة شائكة خاض في تحديد مفهومها الكثير من النقاد واختلفوا فيها وفي علاقتها بالتراث، وأحسن ما قرأته عن الحداثة الشعرية ما يُقرُّ بأنها مفهوم حضاري عميق لا يهتم بمظاهر الأشياء بقدر ما يغوص في كشف أعماق ما أحدثته هذه المظاهر الجديدة من تغييرات في روح الإنسان وحياته العصرية. إنّ الحداثة تبدأ بإدراك عميق لعلاقة عناصر التراث الحضاري الأصيل بعناصر الواقع العصري الجديد،ثم تنتقل إلى بلورة هذه العناصر وتكييفها بما يضمن روح التواصل والاستمرارية بينها، وتصل إلى تشكيل صورة جديدة تعبر عن رؤية الإنسان العصري للحياة. صورة تمتزج فيها وتتلاحم روح الأصالة بروح العصر في تواصل عجيب وتواؤم تام . أمّا من يفهمون الحداثة في الشعر على أنها طلاق بائن مع الماضي والموروث الحضاري الأصيل وزواج متعة بكل صيحة جديدة ثائرة من غير وعي، ولا إدراك بعلاقات الأشياء الوافدة أو فلسفاتها أو جذورها الفكرية .فهو محض تقليد أعمى للغرب ما يلبث أن يخبو بريقه وينطفئ إلى الأبد لأنّ مثله كمثل شجرة خبيثة لا جذور لها إن اجتثت فما لها من قرار.
س9- ما رسالة الشعر في نظركم؟
- يكفي أن أقول أن الشاعر يستطيع أن يفصح ويحسن التعبير عن الأفكار والمشاعر حين يعجز عن ذلك الآخرون، ويستطيع أن يحرّك النفوس ويثيرها ويدفعها إلى التغيير حين تستسلم إلى الجمود وتيأس من الإحياء، ويستطيع أن يفتح العيون على حقائق عميت عنها لكثرة ماران عليها من الغبش والقذى. هذه الحقيقة عن الشاعر هي التي توضّح رسالته الحقّة بغض النظر عن رسالته الفنية الجمالية فهو غذاء العقل والروح و المشاعر بكل ما تحمله هذه العبارة من زخم المعاني ولايسع في هذه العجالة أن أفصل أكثر في رسالة الشعر.
س10- ما سبب روح التّمرّد التي نستشفّها في شعركم؟
- لا يستطيع أي شاعر أن يعيش في برج عاجي بعيدا عما يحدث لوطنه وأمته، فهو لسان حالها وترجمان أحوالها فلست متمردا كما تقول وإنما ثائر فهناك فرق بين التمرد والثورة، أما سبب ثورتي فهو الانحطاط السياسي والاجتماعي والأخلاقي الذي تفاقم في عقلية وواقع هذه الأمة إلى حدّ الرداءة في كل مظهر من مظاهر حياتها في فترتي الثمانينيات والتسعينيات، ولم تكن ثورتي تمردا كما سميته أنت وإلا لكنت لجأت إلى برج عاجي ناءٍ لا أعير فيه اهتماما لما يجري في الواقع، وإنما كانت ثورتي رفضا لهذا الواقع ومحاولة للتغيير فلم أكن لأرضى بموقف المتفرج السلبي الذي لا همّ له إلا النيل من الجيفة التي يتهافت عليها الذباب ما سنحت له الفرصة لذلك، بل كنت أتألم لواقع أمتي و أصبو إلى رؤيتها تستفيق من سباتها وتنهض بطاقاتها ومواهبها لتحيا عزيزة مكرمة ،ولكن للأسف الشديد خابت كل آمالي وازداد الوضع سوءا وصارت الأمة أكثر قابلية للازدراء بل للاستعمار من قبل الأمم الأخرى ولا أدلّ على ذلك من وضع العراق والسودان وغيرهما ...
س11- هل تشعر أنك غريب في وطنك؟
- لي قصائد كثيرة أعبّر فيها عن غربتي في هذا الوطن وغربة هذا الوطن في نفسي فكلانا غريب في الآخر، أحسّ بآلامه وأتعذّب لجراحه العميقة و ينفطر قلبي لضياعه وتيهه وليس بيدي حول ولا طول لأغيّر من حاله، وهو أيضا يحسّ يآلامي وعجزي ويدرك حالى وغربتي. ولا شيء يستطيع الإفصاح عن هذا الشعور بالغربة غير قصائدي التي أحيلك وأحيل القراء إلى قراءتها و تأملها.
س12- ما تقويمك للمشهد الثقافي في الجزائر؟
- حبّذا لو يطرح هذا السؤال على أهل الاختصاص المتتبعين للمشهد الثقافي في بلادنا من المفكرين والنقاد وكبار المثقفين أما حكم مواطن بسيط مثلي فقد يكون ظلما وإجحافا كما قد يكون مدحا وإطراء لأني وبكل صراحة وبساطة لا أملك الرؤية الصحيحة عن الوضع الثقافي عامة لأستطيع إصدار حكم على ذلك، ولكنّي أستطيع أن أقول لك أن الوضع الثقافي عندنا يفهمه عامتنا بل أكثرنا على أنه غناء ورقص وحفلات ماجنة أو ترفيهية وشيء من هذا القبيل وهذا ما يكثر رواجه في بلادنا حسب تقديري وحبذا لو أكون مخطئا في هذا التقدير. ولو سألتني عن الحركة الأدبية عامة والشعرية خاصة لأجبتك بأنها حركة متعثرة تنهض طورا وتنتكس طورا آخر. هناك أسماء تضيء في عالم الشعر والقصة زمنا ثم تنطفئ فجأة أو بالتدريج لا تجد من يأخذ بيدها ويثبت جدارتها ويرعى زهرتها لأنّ الحركة النقدية البناءة غائبة تماما من جهة، ولأن ّالبرامج السياسية المسطرة في بلادنا لا ترسم أفقا واضحا لهذه الحركة من جهة ثانية، بل كثيرا ما تكون خانقة قاتلة بما تفرضه من قيود وحواجز.
س13- ما أحبّ قصائد ك إليك؟
- كل قصائدي حبيبة إلى نفسي فهي جزء مني وأنا جزء منها وإذا أردتني أن أدلّك على أحبّها إلى قلبي فاقرأ (أنشودة البعث والتحدي) و(مخاض السراب) و(عيون تتحدى)
إنّك على موعد أخي القارئ في هذا الحوار مع شاعر موهوب خُلق للشعر ولم يخلق لغيره، ودانت له مملكة الكلمة والبيان، وتوجته ملكا للقريض بلا منازع، فصال وجال وحلّق في فضاءات لم يحلق فيها باعتقادي شاعر سواه. يتسلل إلى أغوار اللغة الشعرية فيستلّ مكنوناتها فإذا بالإلهام يتكشّف والخواطر المكبوتة تصدح وتتشفّف، والأسماع تنصت و تتشنف، والصورة الباهتة عند غيره تصبح ناصعة جليّة تتهفهف.
س1- من يكون ضيفنا؟
- أنا المسمى صالح هندل ولدت في الثامن مارس عام 1961 بمدينة سطيف في أسرة فقيرة محافظة ونشأت فيها. وفي سنة 1966 التحقت بالمدرسة الابتدائية في حي طنجة وأكملت هذه المرحلة بمدينة رأس الوادي التي انتقلت إليها أسرتي واستقرت فيها، ثم تابعت دراستي بمتوسطة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي ومنها إلى ثانوية السعيد زروقي بمدينة برج بوعريريج. وفي سنة 1980 التحقت بجامعة باتنة وانتسبت إلى معهد الآداب واللغة العربية، ولما نلت شهادة الليسانس اشتغلت بالتعليم الثانوي بمدينة رأس الوادي ولا أزال إلى يومنا هذا أستاذا لمادة الأدب العربي بثانوية سالم صريفق.
س2- كيف كانت بداية قرانك بالقريض؟
-أحببت الشعر مُذ كنت تلميذا بالمتوسطة وكانت لي محاولات وطنية حاكيت فيها الأناشيد الحماسية الثورية، وكنت مُولعا بالمطالعة وحفظ الأشعار، وما إن انتقلت إلى الثانوية وتعرّفت على البحور الشعرية وفنّ البلاغة حتى جادت قريحتي وتفتّحت موهبتي بأجمل القصائد العاطفية. وفي جامعة باتنة اكتملت هذه الموهبة ونضجت فنشرت الكثير من القصائد في الجرائد الوطنية مثل: النصر، والنهار، والخبر والنور،ورسالة الأطلس، وغيرها ...كما شاركت في عدة مهرجانات وطنية، وكنت محظوظا حينما أدرج اسمي ضمن مجموعة الشعراء المعاصرين في معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين .
س3- أين غبت كل هذه المدة؟ وهل تخليت عن الشعر؟
- لظروف نفسية واجتماعية اعتزلت الشعر ولم أكتب منذ سنة1996 ولا قصيدة واحدة فضاعت معظم قصائدي واستطعت أن أنقذ منها ثلاثا و عشرين قصيدة قيّدتُها في ديوان واحد تحت عنوان (حروف تتحدى) لا يزال مخطوطا إلى اليوم.
س4- هل اخترت الشعر أم اختارك؟
- الشعر وحي لا ينزل إلاّ على من تأهّبتْ نفسه لاحتضانه، وكانت له الاستعدادات الروحية والشعورية والفكرية ما يؤهله للنبوغ والتفوق و الإبداع. ولا يكفي ذلك ما لم يتسلّح الشاعر بالقدرة على البيان والدُّربة على التعبير الشعري المرهف. ولا مجال ها هنا لأن أتلاعب بالكلمات وأدعي ما يردده البعض مثل: اختارني الشعر أو كتبتني القصيدة أو صاغتني الحروف أو ماشابه ذلك وإنما أقول: أحببت الشعر وتعلّقت به في صغري فحفظت منه الكثير ورحت أقلّد بعض الشعراء ثم شيئا فشيئا تحررت كليا و أصبحت أكتب قصائد من نسيجي الخاص. ولما اجتهدت أكثر في القراءة والتذوق تفجرت ملكاتي الفنية و تألّقت، وتوهّجت قصائدي بالإبداع، ثم انصرفت إلى مشاغل الحياة وأسرتني مشاكلها فخبا وحيُ الشعر عندي ولم أعد أحسّ بتلك الرغبة الجامحة لا في القراءة ولا في قول الشعر .
س5- بم تأثّرت قديما وحديثا؟
- لا أعتقد أني أستطيع أن أحدّد شاعرا ثم أزعم أني تأثّرت به أو بمنهجه، لأني وبكل بساطة قرأت كثيرا من الشعر قديمه وحديثه، وتراكمت في رصيدي الثقافي تجارب الشعراء على اختلاف ألوانها و طعومها ثم امتزجتْ جداولهُم في نهرٍ واحد فلم أعد قادرا على التمييز بين الألوان و الطعوم التي توحّدت في ملكتي الشعرية، فقد تلمس روح الأعشى في قصيدة وقد تفهم فلسفة المعري في أخرى، وقد تدرك عمق السياب في ثالثة، كما قد تحسّ برومانسية الشابي في قصيدة رابعة وقد تشعر بكل هذه الطعوم أو ببعضها في قصيدة واحدة وحسبي أن أترك الإجابة عن هذا السّؤال للنّقاد المتمرّسين إذا حظيت قصائدي بنقدهم.
س6- لمن يقرأ صالح هندل؟
- كنت سابقا أقرأ كثيرا للشابي وابن الرومي والمعرّي و أدونيس ودرويش وأطالع عيون الشعر القديم والحديث، لكنّي اليوم بكل صراحة لم أعد أقرأ إلا لِماما وفي أوقات محدودة جدا إذ لم يعد باستطاعة الإنسان البسيط الذي تشعّبتْ همومه وتعقّدت أموره وتزاحمت عليه المسؤوليات أن يجد رغبة في المطالعة بله اقتناء الكتب الباهظة الثمن، واصطياد الوقت المناسب للقراءة والمطالعة وما زاد الطين بلّة ما يمارس في بلادنا من سياسات التهميش و الإقصاء وثقافة النسيان في حق البراعم الشابة المتطلعة إلى النجاح والطامحة إلى الأخذ بيدها إلى عالم الإبداع و النبوغ.
س7- في عصر الفضائيات والانترنت هل تراهن على القراءة؟ وهل بقي للشعر من دور؟
- صحيح أن عصر الفضائيات والانترنت استهلك جلّ أوقات الإنسان، ولم يترك له خيارا للاهتمام بعالم الكتب والقراءة لكنْ ذلك لا ينفي ما يجنيه الإنسان من فوائد جمّة من اهتمامه بعالم الفضائيات والانترنت ولا ينكر هذه الفوائد إلا جاحد متخلّف، لأنّها قدّمت للإنسان تسهيلات لم يكن يحلم بها، وأسهمت بشكل كبير في توفير جهوده و أوقاته بما لم يكن يقدر على تحقيقه دونها، فهي أدوات تثقيفية لا تضاهى لمن أراد ذلك، سواء من حيث قدرتُها على توفير الوقت وسرعة الوصول إلى المعلومات، أو من حيث دقّةُ وجودة ما تعرضه من علوم و معارف وثقافة .غير أن متعة الكتاب ونشوة قراءته وتصفحه تبقى فريدة لا يمكن للإنسان الواعي أن ينكرها أو يُعرِض عنها في حياته اليومية. أمّا دور الشعر فهو في تعاظم مستمر إذ أن هذه الوسائل التكنولوجية العصرية لم تلغه بل دعمته وقوّت شوكته وعزّزت تأثيره. ألا ترى معي أن الانترنت مثلا قد فتحت الكثير من مواقعها للشعر والشعراء على غرار( أصوات الشمال) ومكّنتنا من الاطلاع على كل مستجدات الحياة الشعرية في العالم بأسره فأسهمت إسهاما عظيما في تلاقح الثقافات وزيادة فرص التأثر والتأثير، ناهيك عن حفظها لتراثنا الشعري الضخم الذي عجّت به ملايين بل ملايير الكتب القديمة التي صارت عرضة للغبار و الإهمال والنسيان.
س8- ماذا تقولون في قضية الحداثة الشعرية ؟وهل تراثنا صار عقدة كما يقول البعض؟
- الحداثة في الشعر قضيّة شائكة خاض في تحديد مفهومها الكثير من النقاد واختلفوا فيها وفي علاقتها بالتراث، وأحسن ما قرأته عن الحداثة الشعرية ما يُقرُّ بأنها مفهوم حضاري عميق لا يهتم بمظاهر الأشياء بقدر ما يغوص في كشف أعماق ما أحدثته هذه المظاهر الجديدة من تغييرات في روح الإنسان وحياته العصرية. إنّ الحداثة تبدأ بإدراك عميق لعلاقة عناصر التراث الحضاري الأصيل بعناصر الواقع العصري الجديد،ثم تنتقل إلى بلورة هذه العناصر وتكييفها بما يضمن روح التواصل والاستمرارية بينها، وتصل إلى تشكيل صورة جديدة تعبر عن رؤية الإنسان العصري للحياة. صورة تمتزج فيها وتتلاحم روح الأصالة بروح العصر في تواصل عجيب وتواؤم تام . أمّا من يفهمون الحداثة في الشعر على أنها طلاق بائن مع الماضي والموروث الحضاري الأصيل وزواج متعة بكل صيحة جديدة ثائرة من غير وعي، ولا إدراك بعلاقات الأشياء الوافدة أو فلسفاتها أو جذورها الفكرية .فهو محض تقليد أعمى للغرب ما يلبث أن يخبو بريقه وينطفئ إلى الأبد لأنّ مثله كمثل شجرة خبيثة لا جذور لها إن اجتثت فما لها من قرار.
س9- ما رسالة الشعر في نظركم؟
- يكفي أن أقول أن الشاعر يستطيع أن يفصح ويحسن التعبير عن الأفكار والمشاعر حين يعجز عن ذلك الآخرون، ويستطيع أن يحرّك النفوس ويثيرها ويدفعها إلى التغيير حين تستسلم إلى الجمود وتيأس من الإحياء، ويستطيع أن يفتح العيون على حقائق عميت عنها لكثرة ماران عليها من الغبش والقذى. هذه الحقيقة عن الشاعر هي التي توضّح رسالته الحقّة بغض النظر عن رسالته الفنية الجمالية فهو غذاء العقل والروح و المشاعر بكل ما تحمله هذه العبارة من زخم المعاني ولايسع في هذه العجالة أن أفصل أكثر في رسالة الشعر.
س10- ما سبب روح التّمرّد التي نستشفّها في شعركم؟
- لا يستطيع أي شاعر أن يعيش في برج عاجي بعيدا عما يحدث لوطنه وأمته، فهو لسان حالها وترجمان أحوالها فلست متمردا كما تقول وإنما ثائر فهناك فرق بين التمرد والثورة، أما سبب ثورتي فهو الانحطاط السياسي والاجتماعي والأخلاقي الذي تفاقم في عقلية وواقع هذه الأمة إلى حدّ الرداءة في كل مظهر من مظاهر حياتها في فترتي الثمانينيات والتسعينيات، ولم تكن ثورتي تمردا كما سميته أنت وإلا لكنت لجأت إلى برج عاجي ناءٍ لا أعير فيه اهتماما لما يجري في الواقع، وإنما كانت ثورتي رفضا لهذا الواقع ومحاولة للتغيير فلم أكن لأرضى بموقف المتفرج السلبي الذي لا همّ له إلا النيل من الجيفة التي يتهافت عليها الذباب ما سنحت له الفرصة لذلك، بل كنت أتألم لواقع أمتي و أصبو إلى رؤيتها تستفيق من سباتها وتنهض بطاقاتها ومواهبها لتحيا عزيزة مكرمة ،ولكن للأسف الشديد خابت كل آمالي وازداد الوضع سوءا وصارت الأمة أكثر قابلية للازدراء بل للاستعمار من قبل الأمم الأخرى ولا أدلّ على ذلك من وضع العراق والسودان وغيرهما ...
س11- هل تشعر أنك غريب في وطنك؟
- لي قصائد كثيرة أعبّر فيها عن غربتي في هذا الوطن وغربة هذا الوطن في نفسي فكلانا غريب في الآخر، أحسّ بآلامه وأتعذّب لجراحه العميقة و ينفطر قلبي لضياعه وتيهه وليس بيدي حول ولا طول لأغيّر من حاله، وهو أيضا يحسّ يآلامي وعجزي ويدرك حالى وغربتي. ولا شيء يستطيع الإفصاح عن هذا الشعور بالغربة غير قصائدي التي أحيلك وأحيل القراء إلى قراءتها و تأملها.
س12- ما تقويمك للمشهد الثقافي في الجزائر؟
- حبّذا لو يطرح هذا السؤال على أهل الاختصاص المتتبعين للمشهد الثقافي في بلادنا من المفكرين والنقاد وكبار المثقفين أما حكم مواطن بسيط مثلي فقد يكون ظلما وإجحافا كما قد يكون مدحا وإطراء لأني وبكل صراحة وبساطة لا أملك الرؤية الصحيحة عن الوضع الثقافي عامة لأستطيع إصدار حكم على ذلك، ولكنّي أستطيع أن أقول لك أن الوضع الثقافي عندنا يفهمه عامتنا بل أكثرنا على أنه غناء ورقص وحفلات ماجنة أو ترفيهية وشيء من هذا القبيل وهذا ما يكثر رواجه في بلادنا حسب تقديري وحبذا لو أكون مخطئا في هذا التقدير. ولو سألتني عن الحركة الأدبية عامة والشعرية خاصة لأجبتك بأنها حركة متعثرة تنهض طورا وتنتكس طورا آخر. هناك أسماء تضيء في عالم الشعر والقصة زمنا ثم تنطفئ فجأة أو بالتدريج لا تجد من يأخذ بيدها ويثبت جدارتها ويرعى زهرتها لأنّ الحركة النقدية البناءة غائبة تماما من جهة، ولأن ّالبرامج السياسية المسطرة في بلادنا لا ترسم أفقا واضحا لهذه الحركة من جهة ثانية، بل كثيرا ما تكون خانقة قاتلة بما تفرضه من قيود وحواجز.
س13- ما أحبّ قصائد ك إليك؟
- كل قصائدي حبيبة إلى نفسي فهي جزء مني وأنا جزء منها وإذا أردتني أن أدلّك على أحبّها إلى قلبي فاقرأ (أنشودة البعث والتحدي) و(مخاض السراب) و(عيون تتحدى)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق